قصائد للشَّاعر الإيطالي سِرجيو كوراتْسيني Sergio Corazzini (1886-1907)
سِرجيو كوراتْسيني في سطور:
وُلِدَ في 6 شباط/ فبراير 1886 في مدينة روما، وتوفِّي فيها وله من العمر 21 عاماً فقط إثر إصابته بالسل. من شعراء مذهب الغُروبيَّة أو الغسقيَّة، وهي مذهب في الشِّعر الإيطالي شاع في أوائل القرن العشرين ويخلط بين السُّخرية والكآبة. شغِف بالأدب، ولم تقتصر قراءاته على معاصريه من الشُّعراء الإيطاليِّين من أمثال (كاردوتشي وباسكولي ودانُّونتسو) بل تعدَّتها إلى الشُّعراء الفرنسيِّين وشعراء البلاد المنخفضة، وكذلك إلى شعراء اللهجات المحليَّة. في 17 أيَّار/ مايو 1902 كتب سوناتته الأولى "هاجسٌ عذبٌ" باللهجة الرومانيَّة ونشرتها صحيفة Pasquino de Roma، لتليها سلسلة من القصائد المكتوبة بشكل سوناتة والتي نشرت في بعض الصُّحف والمجلات الأدبيَّة. في ربيع 1905 أرغمه تدهورُ صحَّته على دخول مصحَّةٍ لمرضى السل في بلدة نوتْشِرا أومبرا حيث تعرَّف بفتاةٍ دنماركيَّة، تُدعَى سانيا، وأحبَّها حبَّاً أفلاطونيَّاً عنيفاً؛ وفي حزيران/ يونيو من العام نفسِه انتقل إلى مدينة كْرِمونا، مسقط رأس أمِّه، ليطلب عوناً مادِّيَّاً من أقربائه، وهناك تعرَّف بفتاةٍ تعمل صانعة حلويَّات وتكاتبا الرَّسائل لفترةٍ قصيرة. بين سنتي (1904) و(1906) نُشِرتْ مجموعاته الشِّعريَّة: "عُذوبات" 1904؛ "كأس العلقم" 1905؛ "الهالات" 1905؛ "كتابٌ صغيرٌ لا طائل منه" 1906؛ "مرثيَّة" 1906؛ "كتابٌ لأجل مساء الأحد" 1906. في سنة 1906، وبسبب اشتداد وطأة المرض عليه، أُدخِلَ كوراتسيني مصحَّةً في مدينة نِتُّونو (نبتون) على البحر التيراني؛ ومن هناك راح يراسل الكاتبَ والشَّاعرَ الإيطالي آلدو بالاتْزِسْكي، ويعمل على ترجمة مسرحيَّة "سميراميس" للكاتب الفرنسي جوزفين بِلادان. في أيَّار/ مايو 1907 عاد كوراتسيني إلى روما، ولكنَّ حالته الصِّحِّيَّة ازدادت تدهوراً وفي 17 حزيران/ يونيو توفِّي في منزله في روما.
* * *
تركِّز قصائد كوراتسيني حول "الأمور اليوميَّة الصَّغيرة"، وهي لا تخفي وراءَها معانٍ غامضة، بل "الإحساس بالخواء" فحسب، ما يُعَدُّ سمةً جوهريَّةً لدى الغروبيِّين. وتعبِّرُ هذه القصائد، من جهةٍ، عن رغبةٍ حزينةٍ في حياةٍ أنكرها عليه المرض، ومن جهةٍ أخرى، عن رغبةٍ بالانسحاب من حاضرٍ ضنينٍ برؤى مستقبلٍ يتوق إليه. يمكن، كذلك، اقتناص لحظتين في شِعره: لحظة الشَّاعر العاطفيِّ البائس التي تحكي عن حزنه الشَّخصيِّ بلغةٍ بسيطةٍ ومتواضعة، ولحظة الشَّاعر المتهكِّم التي تتَّخذ لغةً أقلَّ وضوحاً، ومتعدِّدة المعاني، وأحياناً رمزيَّةً بالكامل. في قصيدة "وحشة الشَّاعر العاطفيِّ البائس" نلمسُ كلَّ جوانب خطاب كوراتسيني الشِّعري، حيث" الطِّفل الصَّغير الذي يبكي" يرفض أن يسمَّى "شاعراً"، معلناً بذلك، ولأوَّل مرَّة، تصوُّرَه لما ينبغي أن تكون عليه "الشِّعريَّة الغروبيَّة"، ومناقضاً بجرأةٍ المذهب الشِّعريَّ الدَّانونتسانيَّ (نسبةً إلى غابرييل دانُّونتسو).
* * *
النُّصوص:
[من مجموعة "عُذوبات" 1904]
قلبي
قلبي لطخةُ دمٍ
حمراءَ، فيها أغمسُ
بلا سُلطةٍ ريشتي التي
تهيجُ وتموج أبداً
في بحر العذوبات.
الريشة تموجُ
والورقة تحمرُّ دوماً
مع كلِّ عاطفةٍ جديدة.
سيبزغ النَّهار: أعلمُ
أنَّ هذا الدَّمَ المتوهِّج
سيخمد فجأة،
وأنَّ ريشتي بصوتٍ مُزمهرٍ
ستتهشَّم...
... وإذَّاك أموت.
*
مياهٌ لومبارديَّة1
أيَّتها المياه الرَّائقة التي أعْبرُ حالماً
في صفاءِ ليالٍ صيفيَّة،
يا مياهاً تتوسَّعُ بين الضِّفاف
مثلَ عينٍ منذهلة، رويداً رويداً،
أيَّتها المياه النَّبعيَّة المترعة بالحنين
والمهمهمة في قلب الخضرة كحلمٍ فاتر،
أيَّتها المياه اللومبارديَّة التي أعْبرُ
تلهُّفاً، ذكراكِ في قلبي لا تموت،
إليكِ تتوق الرُّوح أيَّتها المياه الرَّاكدة
وسط سهول لومبارديا الخضراء،
وأنتِ أيَّتها الينابيع الجذلى والمتلألئة
تحت عذوبة شموس أيَّار المزهر
فوقكِ تتحرَّك نفسي الحالمة
ماضيةً في أسفارها الرُّوحيَّة.
*
حدائق
آهِ أيَّتها الحدائق الصَّغيرة الغافية
في سُباتٍ بين سكينةٍ وعُذوبات،
أيَّتها الحارسة والمستسلمة
لوشوشاتٍ، وقُبَلٍ ومُداعبات؛
آهِ يا مُلتقَى أحلامٍ طاهرة،
ورغباتٍ منزَّهة، وأحزانٍ لامتناهية،
يا حدائق تذوق فيها
المغرِّدات المجنَّحة نشواتٍ ليليَّة.
آهِ كم أحبُّك! الأحلام التي ينغلق
عليها قلبي، تزهرُ، أيَّتها الحدائق،
على طول المسالك، داخلَ أيكاتِك.
أحبُّك، أحبُّك، أيَّتها الملْقَحة
بشمس الرَّبيع في صباحاتٍ خاملة،
أيَّتها الحدائق، يا ضحكات الأرض!
*
موسيقى
هذا ما كتبتِ إليَّ: "الآنَ إذْ تحطَّمَ
حبُّنا الذي جبلناه بالنَّشوة،
فإنَّني أردُّ إليك القُبَلَ التي أغدقتَ عليَّ
وأردُّ إليك كلَّ المداعبات".
يا طفلتي الصَّغيرة، العليلة أبداً،
لقد نسيتِ شيئاً آخرَ بعدُ.
نسيتِ أوَّلَ شيءٍ أغدقته عليكِ، يا حبِّي،
نسيتِ أن تردِّي إليَّ قلبي.
* * *
[من مجموعة "كأسُ العلقم" 1905]
قوافٍ إلى قلبٍ ميتٍ
آهِ يا قلبي الصَّغير، كنتَ رَحباً
كقلبِ يسوع، وأنت الآن مَيْتٌ.
يحتضنك حقلٌ لم أعد أعرف كنهَه
عابقٌ برائحة البنفسجِ والبخور.
أيُّها البشر، لأجل الحبِّ أتيتُ العالَمَ
ولقد أحببت الجميع! حزنتُ كلَّ أحزانكم
وغنَّيتُ كلَّ أغنياتكم!
كنتُ مرآتكم الشَّاسعة كالبحر.
لكنَّ الحبَّ الذي من أجله مات قلبي،
كان فارغاً وغامضاً، غامضاً وفارغاً!
كمثل ساريةٍ كان قلبي البشري،
ساريةٍ لم تعرف أبداً لمسةَ الشِّراع.
كان كمثل شمسٍ هائلة، بلا سماءٍ
ولا أرضٍ ولا بحر، موقَدَةٍ بذاتِها ولِذاتِها،
ومعلَّقةٍ بذاتِها ولِذاتها
في الفضاء. قلبٌ يتَّقد وهو جليد.
كان كمثل بؤبؤٍ مفتوحٍ
مغطَّى بجفنٍ خفيٍّ؛
كان قرباناً هائلاً2، متأجِّجاً، مرفوعاً
في السَّماء بين أصبعين نقيَّتَين،
قرباناً تكسَّرَ قبل أن
يلمس شفاه المضحِّي،
قرباناً كِسراتُه الرَّقيقةُ الصَّغيرة
لم تجدْ قلباً لترقدَ فيه.
*
القلبُ والمطر
يا بيتي الصَّغير العذب، الأحمرَ مثل عذراء
تتورَّد خجلاً وتحتجبُ في ثوبٍ من وريقات الشَّجر
ممزَّقٍ هنا وهناك، ما ينفكُّ دمعٌ حزينٌ
يتجمَّع في العين، والقلب ترجِّفه رياحٌ باردة
كلَّما في البال مرَّت عتباتك المقفرة،
وحديقتك الصَّامتة، بتربتها التي لم تُعزَق
منذ أمدٍ طويل، كأنَّها تربة لحدٍ،
اللحدِ الذي يحتضن كلَّ أملٍ من آمالي العِذاب.
يا بيتي الأحمر الصَّغير الذي يغوي بألفِ سِحرٍ
الذِّراعَ البضَّةَ للممرِّ المزهر،
في هذه السَّاعة التي تبدو لي خروجاً من الحياة،
ما عدتُ أراك أحمرَ، بل تبدو لي، ودمعةٌ
واهنة تنحدر على وجنتيك المتَّقدتين،
شاحباً كما لو مِن ألمٍ لا حدود له.
*
سوناتة الخريف
أوراقٌ وآمالٌ بلا هدنة، أوراقٌ
وآمال؛ أتُراها لا تمتلك أغصاناً وقلوباً
حتَّى تسقط معاً فيحصدها خريفٌ
حزينٌ عن الأرضِ كأنَّها أوَّل الذَّهب؟
الرُّوح التي في رغباتها الصَّفيقة
ذوتْ ومعها آخرُ اتِّقاداتِ
غلومتِها، تسيلُ الآنَ حزينةً حزينة
في عروق الزَّهر والأوراق.
ويبقى القلبُ ويبقى الغصن: وحدهما
يتأوَّهان في نداءٍ باطنيٍّ حنيناً
إلى الصَّيف الأحمرَ وعهدِه القصير.
لكن عندما تعود شموس الرَّبيع
العذبة والمستطابة، ستلقى الغصنَ طافحاً
بالأمل، وأمَّا القلبَ فتلقاه مَيْتاً.
* * *
[ مِن مجموعة "كتابٌ صغيرٌ لا طائل منه" 1906]
وَحشة الشَّاعر العاطفيِّ البائس
I
لماذا تدعوني: شاعراً؟
ما أنا بشاعرٍ.
إنْ أنا إلَّا طفلٌ صغيرٌ يبكي.
انظرْ: لا أملك إلَّا الدَّمعَ أعطيه للصَّمت.
فلماذا تدعوني: شاعراً؟
II
أحزاني أحزانٌ اعتياديَّةٌ مُعدَمَة.
أفراحي بسيطةً كانتْ؛
بسيطةً حدَّ أنَّني أستحي الإقرار بها.
اليومَ أفكِّر بالموت.
III
أرغب في الموت، وحيداً، لأنَّني جدُّ مُتعَب؛
وحيداً لأنَّ الملائكة الكِبار
على الواجهات الزُّجاجيَّة للكاتدرائيَّات
يرجِّفونني حبَّاً ولَوعة؛
وحيداً لأنَّني بتُّ الآنَ
راضخاً مثل مرآة،
مثل مرآةٍ بسيطةٍ وكئيبة.
انظرْ، أنا لستُ شاعراً:
أنا طفلٌ حزينٌ يرغب في الموت.
IV
أوه، لا تتعجَّب من حزني!
ولا تسألني؛
فأنا لا أجيدُ سوى كلماتٍ فارغة،
فارغة، يا إلهي، إلى حدٍّ
يُهيجُ فيَّ الدَّمعَ وكأنَّني على وشك الموت.
قد يبدو دمعي
كمسبحة حزنٍ انفرطَ عقدُها
إزاءَ روحي الوجِعة سبعَ أضعافِ الوجَع،
ولكن ما أنا بشاعرٍ؛
أنا، ببساطة، طفلٌ عذبٌ مُغتَمٌّ
يحدث أن يصلِّي، هكذا كما يغنِّي وكما ينام.
V
كلَّ يومٍ أخاطبُ الصَّمتَ، مثلما أخاطبُ يسوع.
كاهن الصَّمتِ هو الصَّخَب،
بدونه ما كنتُ بحثتُ عن الله ولا كنتُ وجدتُه.
VI
هذه الليلة رقدتُ بيدين خاويتين.
أحسُّ أنَّني طفلٌ صغيرٌ وعذب
منسيٌّ مِن كلِّ البشر،
فريسةٌ بائسةٌ في منال أوَّل الوافدين؛
واشتهيت لو أنَّني أُباع،
لو أنَّني أُضرَب،
لو أنَّني أُجبَرُ على الصِّيام
لكي أقدرَ على البكاء وحيداً وحيداً،
حزيناً حدَّ اليأس،
في زاويةٍ مُظلِمة.
VII
أحبُّ الحياةَ البسيطةَ للأشياء.
كم عاطفةً رأيتها تفقد بتلاتها، رويداً رويداً،
كلَّما زالَ شيء!
ولكنَّك لا تفهمني وتبتسم.
وتحسبُ أنَّني مريض.
VIII
أوه، إنَّني حقَّاً مريض!
مريضٌ وأموتُ، كلَّ يومٍ، شيئاً.
انظرْ: ككلِّ الأشياء.
وما أنا، إذن، بشاعرٍ:
أعلم أنَّه لكي يُدعَى المرءُ: شاعراً، عليه
أن يحيا حياةً أخرى!
أنا لا أجيد، يا إلهي، إلَّا الموت.
آمين.
*
فيما بعد
خطواتُ البشر
تشبه سقوطَ وُريقاتِ
الشَّجر... أوه! يا ربيعَ
حدائق قصيَّة!
يا قداسةَ مساءاتٍ
لا غدَ لها:
ها نحن نشبك أيدينا
لأجل الصَّلاة.
أغلقي كلَّ الأبواب.
سوف نسهر حتَّى بزوغ
الفجرِ الأصليِّ،
حتَّى تدلَّنا نجمةٌ أزليَّةٌ
إلى الطَّريق،
ونتكوَّنَ، في ما وراءَ الموت.
* * *
[من مجموعة "كتابٌ لأجل مساء الأحد" 1906]
مساء الأحد
(إلى ألبرتو تاركياني3)
الآن إذ تشهق الأراغنُ
أراغنُ باربييري4 عند الغسق
بآخرِ الرَّقصاتِ وآخر الأغاني
مرَّةً بعدُ، خوفٌ مجنونٌ
من البقاء وحيدين
في قلب الظُّلمة الوشيكة يتملَّكهم؛
الآن إذ يصنع العشَّاق
البائسون، دونما رثاءٍ،
مِن القلبِ لحداً
لفرحهم الأحديِّ الطَّفيف،
ويمضون صامتين
عِبْرَ الدَّرب المعهود
صوبَ محفلِ الحزنِ الأخير؛
الآن إذ الدَّمعةُ في قناع
ابتسامة
ما تزال تتكلَّف هيئةً لَبِقة
قبل أن تنتهي مدَّة الكراء اليسير
لثوبِ التَّشريفاتِ والسَّمَر؛
الآن إذ يخفِّفون
في الأديرة والكلِّيَّاتِ نورَ المصابيح،
يجفِّفون دموعهم،
ويتخيَّلون أنَّ كلَّ يومٍ في الفردوس
سيكون
يومَ أحد.
الآن إذ تستسلم النِّسوة
في المباغي للقُبَل
مرتِّلاتٍ
مديحَ العذريَّةِ الجنائزيَّ
القصير؛
يجيء الشَّاعرُ، منتشياً بالموت،
حليفاً للخيبات
التي يغدقها الغدُ عليه ومعها
كلُّ غضباتِه الصَّغيرة الصَّمَّاء،
والخضوعات السَّهلة،
فيما الغدُ إيَّاه يضحك هازئاً في وجهه
لأنَّه لم يُجِدْ بعدُ
الفناءَ في الشَّهوات.
*
حواريَّةُ مسرح العرائس
(إلى أندريه نوفلارد5)
- لماذا، يا ملكتي الصَّغيرة،
تتركينني أموت من البرد؟
الملِكُ غافٍ، وفي وسعي أن أغنِّي
لكِ أغنيةً بالكادِ
سيسمعها! أوه، دعيني
أصعد إلى الشُّرفة!
- آه يا خليلي اللطيف،
الشُّرفة من ورقٍ مقوَّى،
ولن تقدرَ على حملنا!
أتريدني أن أموت
منزوعةَ الرَّأس؟
- أوه، يا ملكتي الصَّغيرة، حُلِّي
شعرَك الذَّهبيَّ الطَّويل!
- أيُّها الشَّاعر، ألا ترى
أنَّ شَعري
مِن خيوط القنَّب؟
- أوه، اعذريني!
- عذرتُك.
- هكذا؟
- هكذا ماذا...؟
- لن تبوحي لي بكلمة،
سأموت...
- كيف؟ ألهذا السَّبب
فقط؟
- إنَّك تهزئين بي... وداعاً!
- أيبدو لك ذلك؟
- أوه، ألا تتحسَّرين حتَّى
على لقائنا الأخير
في غابةِ الورق المقوَّى؟
- لا أذكر، يا حبِّي اللطيف...
أنتَ إذاً...
راحلٌ إلى الأبد؟ كم أشتهي
البكاء! لكن ماذا في وسعي أن أفعل
إذا كان قلبي الصَّغير
مِن خشب؟
*
الحلم الأخير
(إلى ألفرِدو توستي6)
لقد بلغْتُ المدينةَ المكنونةَ
في قلبِ غابة.
أطرق على الأبواب، لا أحد يجيب،
أطرق على كلِّ الأبواب
أبواب المدينة البكماء؛ لا أسمع
إلَّا نوافيرَ تغنِّي
أغانٍ بلا لازماتٍ غنائيَّةٍ
مكرَّرة.
أصرخ: "لن أعرف غداً
كيف أعود
من نفس الطَّريق!
أنا طفلٌ ناصعٌ
وفي شَعري أزهرَ إكليلُ ورد!
يداي الصَّغيرتان نقيَّتان
كأيدي قدِّيسين مصنوعين من الشَّمع؛
أحبُّ الكائنات
ولا أجيدُ إلَّا صلاةً كلِيلة".
النَّوافير ما تنفكُّ تغنِّي
في مدينة الأحلام البكماء.
ها إنِّي أبتعد،
كسوتي البيضاء
مزَّقها العوسج،
وإكليلي انقلبَ
تاجَ شوكٍ،
يداي الصَّغيرتان تنزفان
دونما انقطاع
ونفْسي حزينةٌ
كعيونِ
حَمَلٍ موشكٍ على الموت.
والنَّوافير تغنِّي
في ما وراءَ الأبواب البيضاء.
آه! أأنا هو إذاً
ذلك الذي لن ينامَ بعد الآن
ولن يحلمَ بعد الآن
قبل أن يموت؟
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]
الحواشي (كما وضعها المترجِم):
1- نسبةً إلى مقاطعة لومبارديا في إيطاليا.
2- حرفيَّاً: قرباناً هائلاً من الخبز الرقيق.
3- Alberto Tarchiani (1885-1964) صحفي وسياسي ودبلوماسي إيطالي.
4- نسبةً إلى مبتكر هذه الآلة الموسيقيَّة جوفانِّي باربييري الذي ابتكرها سنة 1702م.
5- André Noufflard (1885-1968) رسَّام من أب فرنسي وأم إيطاليَّة.
6- Alfredo Tusti شاعر إيطالي غير ذائع الصِّيت كان صديقاً حميماً لكوراتسيني.